في 16 نوفمبر 2025، يعود مشهد سوق العملات المشفرة ليتصدر العناوين، وهذه المرة مع قصة تراجع ملحوظ. شهد سعر البيتكوين، وهو الأصول الرقمية الرائدة، انزلاقًا كبيرًا إلى ما دون مستوى 96 ألف دولار الحاسم. بالنسبة للمستثمرين الذين يتذكرون جيدًا الأيام الصاخبة في وقت سابق من العام، عندما كان الحديث يدور حول مكاسب مستمرة وتسجيل أرقام قياسية متتالية، فإن هذا التراجع الحالي يمثل جرس إنذار قوي. يبدو أن السوق قرر دخول مرحلة تصحيح عميق وتجميع للقوى. شمعة اليوم اليومية، التي افتتحت حوالي 97,500 دولار بتوقيت غرينتش، سرعان ما استسلمت لضغط البيع المتزايد، لتنخفض إلى 96,200 دولار بحلول منتصف اليوم. ورغم أن هذا الانخفاض يمثل نسبة مئوية ضئيلة، إلا أن الارتفاع المصاحب في حجم التداول يشير بوضوح إلى موجة من البيع الذعري واستنزاف كبير للسيولة تجتاح السوق.
لفهم الجذور الحقيقية لهذا الاضطراب في السوق، يجب النظر إلى ما وراء الرسوم البيانية للأسعار والتقلبات قصيرة الأجل. هذا الانخفاض ليس عشوائيًا أو بلا سبب؛ بل هو نتيجة لمزيج معقد من الضغوط الاقتصادية الكلية وديناميكيات الأسواق التقليدية، التي تتراكم مثل سلسلة من أحجار الدومينو. العامل الأكثر تأثيرًا في هذا المزيج هو الهروب المؤسسي الهائل من صناديق الاستثمار المتداولة الفورية (ETFs) للبيتكوين المدرجة في الولايات المتحدة. تشير التقارير إلى أن الأسبوع الماضي وحده شهد خروج حوالي 869 مليون دولار من هذه الصناديق، مسجلًا بذلك ثاني أكبر عملية سحب في تاريخ هذه الأدوات المالية. وإذا نظرنا بصورة أوسع، فإن إجمالي التدفقات الخارجة الصافية على مدى الأسابيع الثلاثة الماضية يتجاوز مبلغًا مذهلاً قدره 2.64 مليار دولار. هذه الأرقام تؤكد أن المستثمرين المؤسسيين، الذين كانوا بمثابة المحرك الأساسي للارتفاع السابق، يتخذون الآن موقفًا حذرًا ومتحفظًا، ويعيدون تقييم مشاركتهم بشكل منهجي.
السؤال الجوهري هو: ما الذي يدفع هذا التراجع المؤسسي؟ الإجابة تكمن في حالة الاقتصاد الأمريكي، حيث بدأت إشارات التعب والإنهاك الاقتصادي تظهر بوضوح. بالرغم من أن الحكومة الأمريكية نجحت مؤخرًا في تفادي إغلاق مؤقت، فإن هذا الانتصار لا يغطي على المشاكل الهيكلية الأعمق. ارتفع معدل البطالة بشكل طفيف ولكنه مهم إلى 4.3%، مما يشير إلى تباطؤ ملحوظ في وتيرة التوظيف وضعف في سوق العمل. وفي الوقت نفسه، يظل التضخم الأساسي ثابتًا قرب 3%، وهو ضعف المتوسط الذي كان سائدًا قبل عام 2020، مما يدل على استمرارية الضغوط السعرية الأساسية. علاوة على ذلك، أعلنت شركات كبرى، بما في ذلك عمالقة مثل فيريزون، عن تخفيضات جماعية كبيرة للموظفين، مما يخلق تأثيرًا مضاعفًا يهدد بـزيادة تقييد الإنفاق الاستهلاكي وربما تسريع التباطؤ الاقتصادي الأوسع.
في خضم هذا المشهد، تقع سياسات وديناميكيات مجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأمريكي) تحت المجهر. هناك ضجة كبيرة في السوق حول احتمال إعادة تشكيل مجلس الإدارة، وهو ما قد يشير إلى تحول في التوجهات النقدية المستقبلية. من المقرر أن يتقاعد رافائيل بوستيك، رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي في أتلانتا، في فبراير، مما يثير تكهنات بأن مقعده، الذي كان يميل إلى التشدد (Hawkish)، قد يشغله مرشح يميل إلى التيسير (Dovish). قد يزيد هذا التغيير من احتمالية تخفيضات إضافية في أسعار الفائدة، وهي خطوة تكون عادة مواتية للأصول عالية المخاطر وعالية العائد مثل البيتكوين. ويرجع ذلك إلى أن انخفاض أسعار الفائدة يقلل عمومًا من تكاليف الاقتراض ويضخ سيولة أكبر في فئات الأصول القائمة على المضاربة. ومع ذلك، تعرضت مصداقية الاحتياطي الفيدرالي لضغوط بسبب سلسلة من الفضائح الأخلاقية. وقد أدت الاستقالة البارزة للحاكمة السابقة أدريانا كوغلر بسبب صفقات الأسهم التي تم تنفيذها خلال فترات حظر التداول، إلى تآكل الثقة العامة في نزاهة المؤسسة. ينظر بعض المحللين إلى هذه الحوادث، التي تذكر بحظر عام 2022 على تداول المسؤولين للأسهم والسندات أو العملات المشفرة، كعامل يمكن أن يؤدي إلى تفاقم التقلبات وعدم اليقين في جميع الأسواق المالية، ويشعر البيتكوين، الذي يوصف غالبًا بـ'الذهب الرقمي'، بالتأثير المباشر لهذا الغموض.
ومما يزيد من الضغط على البيتكوين هو الجاذبية المتزايدة لسندات الخزانة الأمريكية كبديل للملاذ الآمن. فقد ارتفع عائد سندات الخزانة القياسية لأجل 10 سنوات إلى 4.15%، مما يخلق عائدًا جذابًا للغاية ومعدلاً حسب المخاطر للمستثمرين المؤسسيين المحافظين. نجحت الحكومة هذا الأسبوع في بيع ما قيمته 694 مليار دولار من سندات الخزانة، وهي خطوة ضرورية في الوقت الذي يقترب فيه الدين الوطني من 38.2 تريليون دولار. هذا التحول الواضح نحو سندات الخزانة قصيرة الأجل (T-bills)، التي يبلغ إجمالي قيمتها المتداولة الآن 6.59 تريليون دولار، يدل على إجماع في السوق حيث يفضل المستثمرون بشكل كبير اليقين والحفاظ على رأس المال على المضاربة عالية المخاطر. السؤال المحوري للسوق هو ما إذا كان هذا الخوف المنتشر هو مجرد تصحيح مؤقت في السوق، أم أنه يمثل مقدمة لتباطؤ اقتصادي أكثر رسوخًا من شأنه أن يقمع أسعار الأصول المتقلبة لفترة طويلة.
ومع ذلك، فإن الصورة الكلية للسوق ليست مظلمة بالكامل. فوسط هذه الاضطرابات، يواصل 'الحيتان' المؤسسيون الكبار تجميعهم الاستراتيجي. عاد مايكل سايلور وشركته مايكروستراتيجي، التي تعتبر من أبرز الداعمين للبيتكوين، إلى السوق، واستحوذوا على 487 بيتكوين إضافية بقيمة تقدر بنحو 50 مليون دولار. بهذه الصفقة الجديدة، ارتفع إجمالي ممتلكات الشركة إلى 641,692 بيتكوين. شعار سايلور المتسق هو أنه 'من الأفضل الاستمرار في التجميع خلال فترات التصحيح والضعف.' تتناقض عمليات الشراء الاستراتيجية هذه بشكل حاد مع أداء أسهم شركات التعدين الكبرى مثل WULF وHUT، التي تعرضت لضربة شديدة. تعاني هذه الشركات من التأثير المباشر لانخفاض سعر البيتكوين وتراجع الضجيج حول تداول الذكاء الاصطناعي (AI Trade)، والذي تفاقم بسبب خروج سوفت بنك مؤخرًا من حصته في إنفيديا. على الرغم من هذه الضغوط الخارجية، تظل مرونة البيتكوين الجوهرية في حد ذاتها عاملاً صعوديًا حاسمًا للمستثمرين الملتزمين على المدى الطويل.
من منظور التحليل الفني، تقدم الرسوم البيانية قصة دقيقة. يتقلب مؤشر القوة النسبية (RSI) حاليًا حول علامة 40. ورغم أنه لم يصل بعد إلى حالة التشبع البيعي (Oversold) الكاملة، إلا أنه يقترب من هذا الحد، مما يشير إلى وجود مجال محتمل للانعكاس في نهاية المطاف. في الوقت نفسه، قطع مؤشر الماكد (MACD) أسفل خط الإشارة الخاص به، مما يؤكد تباعدًا هبوطيًا (Bearish Divergence) ويدل على ضعف في زخم الشراء. يعمل المتوسط المتحرك لـ 50 يومًا (MA)، الذي يقع بثبات عند 99 ألف دولار، كـمقاومة علوية عنيدة، مما يجعل الاختراق الحاسم فوق المستوى النفسي 100 ألف دولار يبدو بعيد الاحتمال في المدى القريب. وعلى العكس من ذلك، تظل منطقة الدعم الرئيسية بين 94 ألف دولار و 96 ألف دولار ثابتة وحاسمة؛ ويشير حجم التداول المرتفع المركز في هذه المنطقة إلى أنها لا تزال تجذب اهتمامًا قويًا بالشراء عند المستويات المنخفضة. تشير التوقعات الفنية لشهر نوفمبر إلى أرضية سعرية عند 96,280 دولارًا، إلا أن تحولًا ناجحًا في المعنويات قد يؤدي إلى ارتفاع السعر نحو 105 ألف دولار إذا حافظ الاحتياطي الفيدرالي على موقف ميسر.
على الصعيد الدولي، تتكشف تطورات تنظيمية مهمة. تدرس اليابان تطبيق قانون معاملاتها المالية على 105 عملات مشفرة، بما في ذلك البيتكوين، إلى جانب اقتراح تخفيض معدل ضريبة أرباح رأس المال من 55% إلى 20%. ومن المحتمل أن يؤدي هذا الإصلاح الضريبي الكبير إلى تعزيز التبني المؤسسي والاستثمار بشكل كبير في جميع أنحاء السوق الآسيوية. بالعودة إلى الولايات المتحدة، أدى الإغلاق الحكومي الأخير إلى تأخير في إصدار البيانات الاقتصادية الهامة. من المقرر الآن أن يصدر تقرير الوظائف لشهر سبتمبر في 21 نوفمبر، وإذا كانت القراءة أضعف من المتوقع، فقد يضطر الاحتياطي الفيدرالي إلى تخطي خفض سعر الفائدة في اجتماعه في ديسمبر، واختيار التثبيت بدلاً من ذلك لجمع المزيد من المعلومات المؤكدة.
في ظل انزلاق البيتكوين الأسبوعي الأخير بنسبة 9% تقريبًا من ذروته في أوائل نوفمبر عند 103 آلاف دولار، يترقب المتداولون بقلق 'ارتفاع سانتا الموسمي'؛ وهو نمط تاريخي غالبًا ما تشهده أسواق الأسهم والعملات المشفرة في شهري نوفمبر وديسمبر بارتفاع في الأسعار. ومع ذلك، فإن الخلفية الحالية لـعمليات البيع المكثفة لأسهم التكنولوجيا (Tech Sell-off) وقوة الدولار الأمريكي تشير إلى استمرار مخاطر الهبوط. على الرغم من ذلك، يرى جزء مؤثر من السوق أن هذا الانخفاض العميق في الأسعار (Dip) يمثل فرصة تجميع ممتازة، خاصة في أعقاب حدث التنصيف (Halving) الأخير والموافقات التاريخية لصناديق الاستثمار المتداولة. وتفترض هذه النظرة طويلة الأجل أن الندرة الهيكلية للبيتكوين بعد التنصيف ومساره المؤسسي المؤكد سيدفعان السوق حتمًا إلى مستويات أعلى غير مسبوقة. وبالتالي، فإن النصيحة العملية هي مراقبة مستويات الدعم الحرجة بجدية وتبني استراتيجية طويلة الأجل وصابرة. قد يكون هذا 'الشتاء المشفر' الحالي مجرد العمل التحضيري اللازم للازدهار والنمو الهائل المتوقع في ربيع العملات المشفرة القادم.